ابو تمام والإنسان (الجزء الثالث) //بقلم الأستاذ عبدالله سكرية
أبو تمّام والإنسان . الجزء الثّالث.
إنسانُ الدّهر .
هو القائلُ :
يومي من الدّهرِ مثلُ الدّهر مشتهرٌ
عزمًا وحزمًا ، وساعي منه كالحِقَبِ
لا يطردُ الهمَّ إلّا الهمُّ من رجلٍ
مُقلقلٍ لبنات القفرة النّجُبِ
ماضٍ إذا الهممُ التفّتْ ، رأيتَ له
بوخدِهنَّ استطالاتٍ على النّوبِ
لا تُنكري منْه تخديدًا تخلّلهُ
فالسّيفُ لا يُزدَرى إنْ كان ذا شُطَبِ .
ديوان إبي تمّام ص 15.
على المستوى الموسيقيّ جاءتِ الأبياتُ على البحرِ البسيط. ( مستفعلن ، فاعلن... ) تتكرّران أربعَ مرَّاتٍ ، والبسيطُ يقربُ من الطّويلِ ، ولكنّه لا يتّسعُ مثلَه لاستيعابِ المعاني، ولا يلينُ لينَه للتّصرُّف بالتّراكيبِ والألفاظِ، وهو من وجهٍ آخر يفوقه رقّةً وجزالةً .. ولهذا قلّ في أشعارِ الجاهليّةِ ، وكثُر في شعرِ الموّلدين . ( مقدّمة الألياذة ص91.) .. وحرفُ القافيةِ الباءُ، وحركتُه الكسرُ، أمّا الباءُ ، كما وردَ سابقًا ، فهو بلوغُ المعنى في الشّيء بلوغًا تامًّا ، وأمّا الكسرُ فهو للخضوعِ والإنقيادِ كما للإلحاق والإضافة ( دراسات فنّيّة في الأدب العربي ، الدكتور عبد الكريم اليافي ).
أمّا صورةُ الشّاعرِ في هذه الأبيات فقد بدتْ بألوانٍ ظهرَ فيها أبو تمّام إنسانًا مختلفًا أو يكادُ يكونُ كما كانَ يريدُ متفرِّدًا .
فكيف للغةِ أن أن تفصحَ لنا عمّا يكونُه الشّاعرُ مع عمرِه ومع الدّهر ؟
في البيتِ الأوّل رمزَ الشّاعرُ إلى عمرهِ بكلمةِ يومٍ ، وهم مشتهرٌ معروفٌ ومذكور ، عازمٌ مصمّمٌ ، فاعلٌ وجادٌّ وهم متحكّمٌ بالذي يريدُه وواثقٌ ممتلئٌ . وهو متى عجزَ عن الخلودِ في المكانِ ، نراهُ قد لجأ إلى الزّمان ِ ، ليجعلَ يومَه من الدّهرِ مثلَ الدّهرِ في دقّتِه الخفيَّةِ ، ونزوعِه المُتطوّرِ العميقِ . هكذا يتصوَّرُ أبو تمّام (الإنسانَ الدّهرَ)
الذي لا يكفُّ عن الحركةِ ولا يُحَدُّ بحدودٍ .
وفي البيتِ الثّاني واقعٌ مكانيٌّ يسعى الشّاعر إلى تغييره فيصوّرُ نفسه رجلًا قلقًا محزونًا ،يتململُ في المكان ، لا يلبثُ أن ينتفضَ ، ويقودَ مطاياه القويّةَ ، ويضربَ بها أجوافَ الصّحراء ،منشرحًا لرحلته التي أرادها ، وأحبّها وفكّر بالوصول إليها ، فوجدَ الحرَكة الطّامحةَ سبيلًا للوصول.
وهكذا يحوِّلُ أبو تمّام ، كما بدا في البيتِ الثّالثِ ،يومَه من الدّهر بالعزمِ والحزمِ ، بالإرادة وبالمحبّةِ والتّفكيرِ ، فيجعلُ ساعاتِه حِقبًا ويومَه دهرًا خالدًا . فبالجهدِ الموصولِ بالعطاءِ يخلّدُ الإنسانُ، ولكنّ الخلودَ يكلّفُ صاحبَهُ المتاعبَ وذلك ما يؤكّده البيت الرّابعُ .
فالتّخديدُ يعني الحفرَوالتّأثيرَ. وتخلّلهُ يعني نفذ فيه . والشُّطبُ تعني الخطوطَ في صفحةِ السّيفِ .. وهناك إمرأةٌ تتأمّلُ في وجه هذا الرّجلِ الذي قلقلَ بناتِ القفار حتّى استطالَ على النّوبِ وطردَ الهمومَ وحقّقَ المُرادَ ، فتوشك أن تدير عنه وجهها ،وتُنكرُه ،وتظنُّه غريبًا عنها ، فقد تغيّرتْ ملامحُه ، وتخدّدَ وجهُه ! وها هو يقولُ لها : هكذا يا حبيبةُ ينبغي أن تفهمي معنى تغيُّري . إنّني رجل ماضٍ في ضمير المكان لامتلاك الزمان فلا تنكري فيَّ ماتركتْه أهوال الرّحلةِ فيَّ من آثارٍ ، ف"السّيلُ حربٌ للمكان العالي "، والسّيفُ المستعملُ المشطوبُ خيرٌ من السّيفِ المهملِ المغمود.
هذا هو الفرقُ بين إنسانٍ يريده أبو تمّام مجاهدًا ، متحمّلًا ، متطوّرًا وبين ناس عصره الخانعين الذين يخشَونَ المغامرة والتغيير . وقيمةُ الزّمان تختفي مع النّاس البلداءِ الذين لا همّ لهم إلّا المألوفَ القريبَ فهؤلاء عارٌ عليه . أمّا إنسانُ أبي تمّام فشرفُ الزمان وشمسُه. وفيه يقول بحدّة بارزةٍ :
" متوقّدٌ منه الزمانُ وربّما
كان الزمان بآخرين بليدا . ديوان أبي تمّام ص 90.
تعليقات
إرسال تعليق